عناية الإسلام بالصحة البدنية

عنوان المقال: عناية الإسلام بالصحة البدنية

لقد جاء الإسلام بمنظومة متكاملة تشمل الجوانب الروحية، العقلية، الاجتماعية، والبدنية، بحيث تتناغم حياة الإنسان مع مقاصد الشريعة التي تهدف إلى حفظ النفس والعقل والدين والنسل والمال. ومن هذا المنطلق، فقد أولى الإسلام اهتمامًا بالغًا بالصحة البدنية، باعتبارها شرطًا لازمًا لأداء العبادات، وممارسة الواجبات، والإسهام في عمران الأرض. لم تكن هذه العناية مجرد توصيات سطحية، بل شكلت جزءًا من العقيدة والسلوك، وانعكست في تفاصيل الحياة اليومية للمسلم، من خلال النصوص الشرعية، والتوجيهات النبوية، والعادات الصحية التي أرساها الإسلام في مجالات الأكل، والنظافة، والرياضة، والنوم، والتداوي.

أولًا: الصحة في القرآن الكريم والسنة النبوية

تتجلى عناية الإسلام بالصحة البدنية في العديد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، حيث دعا القرآن إلى الاعتدال في الأكل والشرب كما في قوله تعالى:

{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]

فالإفراط في تناول الطعام، أو العادات الغذائية السيئة، تؤدي إلى اعتلال الجسد، وهو ما يعارض مقصد الشريعة في حفظ النفس.

كما قال النبي ﷺ: “إن لبدنك عليك حقًا” [رواه البخاري]، وهو توجيه صريح بأن على المسلم واجبًا تجاه جسده، يحفظه من التلف، ويعطيه الراحة، والغذاء المناسب، والنشاط البدني. بل إن النبي ﷺ كان إذا دعا لأحد، دعا له بالصحة فقال: “اللهم عافه في بدنه”، مما يدل على قيمة الصحة كنعمة عظيمة لا تدوم إلا بالمحافظة عليها.

ثانيًا: التغذية المتوازنة في الإسلام

لقد دعا الإسلام إلى الاعتدال في الطعام والشراب، ونهى عن التخم والإفراط. قال رسول الله ﷺ: “ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه” [رواه الترمذي]. وهذا الحديث يمثل قاعدة ذهبية في علم التغذية الحديث، حيث يؤكد على أهمية تقليل كمية الطعام، والحفاظ على مساحة كافية للهضم والتنفس.

ووجه الإسلام إلى تناول الأغذية المفيدة مثل التمر والعسل واللبن والزيتون والرمان، وهي أطعمة ثبت علميًا فوائدها الكبيرة في تقوية الجهاز المناعي، وتنشيط الدورة الدموية، وتعزيز الصحة العامة. كما نهى الإسلام عن أكل ما يضر، أو ما ثبتت سميته، مثل أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير.

ثالثًا: النظافة والطهارة أساس للصحة

النظافة في الإسلام ليست مجرد سلوك حضاري، بل عبادة تُحتسب بها الحسنات، وشرط لصحة كثير من العبادات مثل الصلاة. قال النبي ﷺ: “الطهور شطر الإيمان” [رواه مسلم]، أي أن الطهارة تساوي نصف الدين من حيث الأهمية، لأن بها تصح الصلوات، وتقل الأمراض، ويتحقق التوازن النفسي.

وقد أمر الإسلام بالوضوء خمس مرات في اليوم، والغُسل عند الجنابة والجمعة، والسواك لتنظيف الفم، وتقليم الأظافر، وحلق العانة، ونتف الإبط، وغسل اليدين قبل الطعام وبعده، والنهي عن التبول في الماء الراكد، وكل هذه الأوامر تشكل نظامًا وقائيًا دقيقًا يحفظ المجتمع من الأوبئة، ويجعل من النظافة ثقافة يومية مترسخة.

رابعًا: الرياضة والنشاط البدني في الإسلام

مارس النبي ﷺ الرياضة بنفسه، وشجع أصحابه عليها، وبرزت في سيرته المباركة نماذج من رياضات مختلفة مثل الجري، وركوب الخيل، والمصارعة، والرماية، والسباحة. وقد قال النبي ﷺ: “علِّموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل” [رواه البيهقي]، وهو حديث يبرز أهمية بناء أجساد قوية قادرة على الدفاع عن النفس، والعمل، والعبادة.

وكان النبي ﷺ يسابق زوجته عائشة رضي الله عنها، مما يعكس طبيعة الرياضة كوسيلة للترويح النفسي والأسري، وليست حكرًا على الرجال. بل كانت الرياضة حاضرة في التربية النبوية منذ الصغر، بحيث لا يُترك الطفل للخمول والكسل، بل يربى على الحركة والنشاط.

خامسًا: النوم والراحة في المنهج الإسلامي

ينظم الإسلام حياة المسلم وفق توازن دقيق بين العمل والراحة، فالليل للسكن، والنهار للكد والعمل. وقد حث الإسلام على النوم المبكر، والاستيقاظ لصلاة الفجر، والنوم القيلولة لمن استطاع، لما لها من فوائد في تجديد النشاط العقلي والجسدي. كما نهى الإسلام عن السهر الطويل لغير فائدة، أو النوم المفرط الذي يؤدي إلى الكسل والخمول.

وتبين الأبحاث الطبية الحديثة أن نظام النوم الإسلامي، القائم على ثلاث فترات نوم (ليلية – قيلولة – بعد العشاء المبكر)، يساعد على تقوية الذاكرة، وتنشيط المناعة، وتنظيم الهورمونات، بما ينعكس على الصحة العامة بشكل ملحوظ.

سادسًا: التداوي والوقاية من الأمراض

لم يكن الإسلام دينيًا صوفيًا يكتفي بالتوكل دون الأخذ بالأسباب، بل جاء بمنظومة طبية وقائية وعلاجية متكاملة. قال رسول الله ﷺ: “تداووا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء” [رواه الترمذي]. والتداوي واجب شرعي لمن أصيب بمرض، ولا يجوز ترك العلاج بدعوى التوكل.

كما أمر النبي ﷺ بالحجر الصحي لمنع انتشار العدوى، فقال: “إذا سمعتم بالطاعون بأرض، فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها” [رواه البخاري]. وهو ما يُعد تأسيسًا مبكرًا لمفهوم العزل الصحي في مكافحة الأوبئة.

وشجع الإسلام على استعمال الأعشاب والمواد الطبيعية في العلاج، مثل الحبة السوداء، والعسل، والزيت، وأوصى بالحجامة، والصيام كوسيلة علاجية. وقد ثبت علميًا أن الحجامة تفيد في تنقية الدم، والصيام يعيد ضبط العمليات الحيوية في الجسم.

سابعًا: الصيام وأثره على الصحة

الصيام ركن من أركان الإسلام، لكنه في نفس الوقت نظام صحي متكامل يعيد للجسد توازنه. وقد أثبتت الدراسات أن الصيام يساعد على خفض ضغط الدم، وتحسين مقاومة الأنسولين، وتنظيف الجسم من السموم، وتحفيز آليات الشفاء الذاتي.

كما أن الصيام يمنح الجهاز الهضمي فترة راحة، ويقوي الإرادة، ويكسر العادات الغذائية السيئة. وقد جاء في الحديث: “صوموا تصحوا” [رواه الطبراني]، وهي قاعدة طبية راسخة في طب الصيام الحديث.

ثامنًا: الصحة النفسية في ارتباطها بالبدنية

الصحة في الإسلام ليست جسدية فقط، بل هي تكامل بين البدن والنفس والروح. فالإيمان والعبادة والرضا واليقين والذكر، كلها عوامل تؤثر على التوازن النفسي، الذي ينعكس بدوره على الجسد. وقد أثبت الطب النفسي الحديث علاقة القلق والاكتئاب بأمراض القلب، وارتفاع ضغط الدم، واضطرابات الجهاز المناعي.

وفي الإسلام، تُعالج الهموم بالقرآن، والطمأنينة بالذكر، والتفاؤل بالدعاء، والتوكل على الله، مما يجعل المسلم محصنًا نفسيًا، وهذا ينعكس على مناعته وصحته البدنية.

جدول يوضح العلاقة بين السلوكيات الإسلامية وفوائدها الصحية:

تاسعًا: الفقه الإسلامي والصحة العامة

الفقهاء اعتبروا أن حفظ الصحة من مقاصد الشريعة، ولذلك أباحوا كثيرًا من الأمور الطبية، حتى لو احتاجت إلى تدخل جراحي أو تناول أدوية تحتوي على مواد نجسة في حال الضرورة. بل إن العلماء ناقشوا مسائل مثل التبرع بالدم، وزرع الأعضاء، وتحديد النسل، وفق قواعد شرعية تحكمها الضرورة، ودرء المفاسد، وتقديم المصلحة.

وقد وُجد في التراث الإسلامي أطباء كبار أمثال ابن سينا، والرازي، وابن النفيس، الذين أسسوا لعلم الطب الإسلامي على أسس عقلية وتجريبية، مما يدل على أن العناية بالصحة لم تكن أمرًا ثانويًا، بل أصيلاً في الفكر الإسلامي.

المصادر:

1. ابن القيم الجوزية، “الطب النبوي”، دار الفكر – بيروت.

2. عبد الكريم زيدان، “المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم”، مؤسسة الرسالة.